المشهد الأوّل :
(ثمود) هم قوم النبي صالح (عليه السلام) أمرهم الله أن يتركوا الناقة تشرب الماء يوماً ويشربوا هم يوماً آخر ،
لكنهم عصوه فعقروها ، أي ذبحوها ظلماً وعدواناً ،
وهذا ما حدّثنا القرآن عنه (قال هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم * فعقروها فأصبحوا نادمين * فأخذهم العذاب إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ) .
المشهد الثاني :
في مكان ما ،
كان هناك حاكم وشعبه يعبدون الأوثان ،
وكان الحاكم يجبر الناس على عبادة تلك الأوثان ،
غير أن ثلّة من الفتية المؤمنين رفضوا ذلك ،
ولأنّ الحاكم جائر ويبطش بمن لا يطيعه ،
طلبوا من الله أن يوفر لهم مكاناً يعتزلون فيه من أجل أن يبحثوا هناك عن مخرج للمأزق الذي هم فيه ،
فأرشدهم إلى الكهف ،
لكن إرادة الله اقتضت أن يناموا هناك نومة استثنائية طويلة إلى أن تغيّر النظام وجاء حاكم ونظام آخر .
وخلاصة هذه القصة تستعرضه لنا الآيتان التاليتان : (نحن نقصُّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدىً * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السّموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً ) .
المقارنة بين المشهدين :
1 ـ في المشهد الأوّل قائد صالح ومؤمن ونبيّ لا يأمر قومه إلاّ بما أمره الله به ، وبالتالي فهو لا يريد لهم إلاّ الخير والصلاح .
وفي المشهد الثاني حاكم ظالم متجبّر يأمر قومه بالكفر والضلال والشرك وعبادة الأصنام .
2 ـ في المشهد الأوّل أمّة من الناس تعصي أمر نبيّها وهو أمر الله ،
وفي المشهد الثاني أمّة من الناس تطيع حاكمها المشرك رغم أنّ فيه معصية كبرى لله .
3 ـ في المشهد الأوّل يتجاوب الناس لعقر الناقة بين مَنْ أعدّ العدّة وبين مَنْ نفّذ وبين مَنْ رأى المنكر وسكت ، فعمّهم الله بالعذاب .
وفي المشهد الثاني لم يشكّل الجو العام الضاغط مبرراً لطائفة من الشبان المؤمنين أن ينخرطوا في الجماعة المشركة ، فكتب الله لهم النجاة من القوم الظالمين .
4 ـ لقد وصف الله الجماعة المنحرفة من قوم صالح (ثمود) في قوله تعالى : (وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى )
ووصف الثلة المؤمنة من الفتيان (أهل الكهف) بقوله : (إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .
والفارق واضح : هناك إيثار (العمى) على (الهدى) وهنا (إيمان) وزيادة في (الهدى) .
5 ـ الناس ـ في المشهد الثاني ـ أطاعوا الحاكم المشرك الظالم ورضوا بعمله في سكوتهم عليه واستجابتهم لعبادة الأصنام ،
إلاّ (أهل الكهف) من الفتية الذين وحّدوا الله ورفضوا عبادة غيره ، أي أ نّهم لم يستسلموا للتيار بل سبحوا ضدّه ،
وأمّا الناس في المشهد الأوّل فبالعكس فقد انساقوا جميعاً مع التيار فحتى الذي لم يشترك في عقر الناقة ، ساهم برضاه مما جعل تبعة هذا العمل المنكر مشتركة ، ففي الحديث : «إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا» . وفي الحديث أيضاً : «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به وإثم الرضا عنه» .
من هنا ، يمكننا أن نلخّص الفوارق في :
ـ هناك (في قصة ثمود) التحام بالجماعة التي تمارس المنكر .
وهنا (في قصة أصحاب الكهف) انفصام وانفصال عن مجتمع المنكر .
ـ هناك عقلٌ جمعي يتحكّم بالإرادات فيشلّها فتتحرك من دون وعي أو مناقشة للقرارات المصيرية الخطيرة .
وهنا عقل منفتح وارادة مستقلة تأبى أن تكون كأفراد في قطيع .
ـ هناك كفر وضلال يتحرك بمنطق العنف والتصفية والمناصرة على الظلم .
وهنا إيمان عميق يدعو إلى التعقّل ونبذ عبادة غير الله الواحد الأحد .
التطبيقات العملية :
من التطبيقات العملية للنموذج الأوّل (ثمود) هم (الإمّعيون) أو (الخائضون مع الخائضين) المنخرطون مع الجوقة .. الناعقون مع كلّ ناعق ، أو الأكثرية الصامتة ، أو سمّهم ما شئت .
فأنت قد تلتقي بشبان وفتيات يفتقدون السيادة والاستقلال تماماً ، وإذا سألتهم : لِمَ تفعلون ذلك فتهدرون كراماتكم وتهمّشون شخصياتكم ؟
قالوا :
نحن جزء من الجماعة ولا نريد أن نشذّ عنها ، بقطع النظر عن أن فعل جماعتهم صحيح أو خطأ ، حق أو باطل ، معروف أو منكر ،
وهذا هو التعصب المقيت الكثير الشبه بقوم ثمود الذين يتضامنون في ارتكاب المنكرات .
ومن التطبيقات العملية للصنف الثاني ما تراه من إيمان ووعي الشبان والفتيات الذين لا يجرفهم التيار مهما كان عنيفاً ،
فلقد اختطوا طريقهم وعرفوا ما هو الخطأ وما هو الصواب ،
فحتى لو كان المجتمع متفسخاً ظالماً فاسداً فإنّهم لا يجدون ذلك مبرراً في الانحلال والاستغلال والظلم والفساد ،
وهؤلاء كأعمدة النور في الشوارع المظلمة ، لولاهم ، ولولا جهادهم وصبرهم ، ولولا وعيهم وإيمانهم ، لولا صرخاتهم من أجل الحق ، وتصرفاتهم الدالة على الاستقامة ، لكنّا نتخبّط في الظلام .
وقد يخطئ مَنْ يقول ما قيمتي ؟ ما أثري ؟ ما أنا إلاّ بصيص نور في محيط مظلم ، وينسى أن بصيصاً هنا وبصيصاً هناك يمكن أن يحدثا ثقوباً في جدار الظلام ، وأن ظلام العالم كلّه لا يستطيع أن يطفئ نور شمعة واحدة .
بقي أن نقول إن (فتية الكهف) لم يعتزلوا الواقع هروباً من المسؤولية ، وإنّما بحثا عن حلّ أو مخرج للتعامل مع الواقع المشرك الذي أراد لهم أن يكونوا لبنة في بنائه ، وأرادوا أن يبنوا بنيانهم الذي يقوم على توحيد الله وطاعته .