العينة الأُولى :
إثنتان من زوجات الأنبياء (عليهم السلام) وهما : زوجة نوح وزوجة لوط ،
فرغم أ نّهما كانتا في كنف زوجين نبيّين ،
لكنهما آثرتا الانسياق مع تيار المجتمع الفاسد المنحرف الذي يقف في الجهة المضادّة لدعوة زوجيهما المؤمنين الصالحين .
إمرأتان عدوتان لزوجيهما تعيشان في بيوتهما وتناصران أعداءهما عليهما ،
فأيّ موقف خيانيّ أشدّ وطأ من أن تقف شريكة الحياة في صف الأعداء لمحاربة زوجها ونبيها ومؤتمنها على بيته وعرضه وأولاده ،
فعدوّ الداخل أشدّ خطورة من عدوّ الخارج ، ولذا اعتبر ظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضة .
يقول تعالى : (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) .
العينة الثانية :
امرأتان صالحتان ،
إحداهما زوجة لطاغية مجرم مستكبر يذبّح الأبناء ويستحيي النساء ،
إنّها (آسية بنت مزاحم) المرأة المؤمنة الفاضلة العاقلة التي اعتبرها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة من أربع نساء هنّ أكمل نساء الدنيا ،
ورغم أنّها كانت تعيش في بحبوحة النعيم ، لكنّها لم تستسلم لنعيم القصر الفرعوني ،
وآثرت جنّة الله وقربه (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين ) .
وأمّا المرأة الثانية فهي
(مريم بنت عمران) المرأة العفيفة الشريفة التي كانت سيرتها الصالحة في قومها أنقى من الماء الزلال
حتى أ نّهم كانوا يضربون المثل بعفّتها وتبتّلها وعبادتها وسيرتها الحسنة العطرة ،
فكانت المثل الأعلى لنساء جيلها وللنساء على امتداد الأجيال ،
فهي لم تلوّث سمعتها بوحل السوء والفحشاء (أحصنت فرجها)
وبقيت تعيش الطهر والعفّة التي يحبّها الله للفتيات وللشبّان على السواء .
مقارنة بين العينتين :
1 ـ العينة الأولى (امرأة نوح وامرأة لوط) لم تنتفعا من الغنيمة الكبرى التي كانت تتحرك في بيوتهما ،
فرغم أن زوجة النبيّ يفترض أن تكون داخل مدرسة الأخلاق والالتزام والتقوى والصلاح ، وتمثل القدوة لنساء جيلها ،
إلاّ أ نّهما كانتا على العكس تماماً ، فهما كذاك العطشان القريب من النهر ولا يريد الإرتواء منه وإنّما يفضّل أن يشرب من المستنقع !
أمّا العينة الثانية (آسية ومريم) فهما ورغم الإمكانية الدنيوية للحصول على المتع والملذّات والمباهج والمسرّات ،
لكنهما آثرتا الحصول على ما هو أكبر وأبهج وأدوم وهو نعيم الآخرة والفوز برضوان الله وهو أعظم النعيم .
2 ـ العينة الأولى جاهلة متعنّتة لا تعرف الطريق الصحيح ولا قيمة الإيمان والصلاح والأمانة ،
ولذا راحتا تحاربان ذلك كلّه استجابة لجهل مستحكم وتيار جارف ،
فكانتا كمعصوب العينين لا تريان سوى ظلمة تمرّدهما وعنادهما وعصيانهما .
أمّا العينة الثانية ، فهي عينة عالمة وعاقلة
وعارفة تماماً ماذا تريد ؟
وماذا يُراد منها ؟
حتى ولو كان المجتمع كلّه فاسقاً منحرفاً ظالماً عاصياً ،
فهما تدركان أنّ المسؤولية أمام الله مسؤولية فردية (وقفوهم إنّهم مسؤولون ) .
3 ـ العينة الأولى عينة الخائنات اللواتي لا يحفظن للزوجية الصالحة حقوقها ،
ولا يؤدين الأمانة إلى أصحابها ،
فبدلاً من أن يكن عوناً وعضداً لأزواجهنّ الصالحين كنّ عوناً عليهم ،
مما أفسد حياتهنّ وحياة أبنائهنّ .
وقد مرّ بنا كيف أن ابن نوح (كنعان) قد ساير مجتمعه الفاسد الضال نتيجة ضلال أمّه وفسادها فكانا من المغرقين .
أمّا العينة الثانية ،
فهي عينة الأمينات على رسالتهنّ وإيمانهنّ وإخلاصهنّ لله ،
والصدق في التعامل معه ،
والأمينات على العفّة والطاعة ،
وتفضيل ما عند الله على ما عند سواه .
تطبيقات عملية :
لا بدّ من التقاط الدروس والعبر التي تتضمنها العينتان ،
فالبيئة ليست كلّ شيء في التربية ،
فهناك عوامل أخرى تؤثر على سيرة وسلوك وموقف الانسان ،
فلا يكفي العيش في بيت ليتحول سكّان ذلك البيت إلى أنبياء أو صلحاء ،
فالتنشئة الأولى والمحيط الاجتماعي الضاغط باتجاه الانحراف قد تجعل الانسان يميل إلى الكفر ويصارع الإيمان .
فعلى صعيد الواقع الذي نحياه ،
نرى أنّ بعض أبناء وزوجات المؤمنين الصالحين يقفون في صف أعدائهم ،
حتى انّهم يتجسسون عليهم لصالح أنظمة الجور وربّما كانوا السبب في قتلهم على أيدي الطغاة ،
وهي خيانة عظمى تشبه خيانة امرأة لوط وامرأة نوح لزوجيهما .
وعلى العكس من ذلك ،
فإنّ القرب من أعداء الله والعصاة والطغاة لا يمثل سبباً لمجاراتهم والإقتداء بهم والعمل وفق ما يخططون ،
فإنّ الإقتران بعلاقة زوجية أو نسبية لا يعطي مبرراً للانحراف والانسياق مع الأهواء الضالّة المُضلّة .
ولعلّك اطلعت على شبّان وفتيات عاشوا في بيوت منحرفة ،
حيث الأب سكّير يعاقر الخمرة ولا يصلّي ولا يصوم ويجترح السيِّئات والمنكرات جهاراً نهاراً ،
والأمّ ساهية لاهية أو مغلوب على أمرها ، وقد تعيش الانحراف في التبرّج والتغنّج ،
لكنّك ترى أبناءً ملتزمين وفتيات محتشمات لا يقرّون آباءهم وأمّهاتهم على ما هم عليه من ضلال ،
ومرجع ذلك إلى تقدير واع ودقيق لخطورة ما يقوم به الآباء والأمّهات
مما يجعل الأبناء والبنات ينفرون من ذلك ويقرفون منه ويهربون إلى الله لينجيهم من عمل آبائهم وأمّهاتهم ،
وهؤلاء كآسية التي عاشت في البيت المنحرف ولم تنحرف .
ولا يخفى أنّ موقع الفتاة أو الشاب في البيت المؤمن والأسرة الصالحة له خصوصيته ،
فالناس ـ كما قلنا ـ ينظرون إلى البيت والأسرة ككل مكتمل ،
ولا ينظرون إلى أفراده كلاًّ على انفراد ،
فانحراف أيّ عضو فيه سيصيب بالأذى أعضاءه الآخرين ،
وكما أنّ نساء النبي لسن كأحد من النساء لموقعهنّ الخاص من النبي ومن المجتمع ،
فكذلك نساء وبنات وأولاد المؤمنين العاملين الصالحين .
فقد ترى بعض بنات وأبناء وزوجات العلماء والعاملين والدعاة والقياديين والمسؤولين ، سبّة على آبائهم ،
ومع ان (نوحاً) (عليه السلام)لا يتحمّل وزر عمل ابنه
فكذلك المؤمنون الذين لا يتحملون وزر أعمال أبنائهم المنحرفين إلاّ بقدر تقصيرهم في تربيتهم ،
لكننا نؤكد أنّ بعض الآباء الصالحين والأمّهات الصالحات قد يطمئنون إلى أنّ صلاحهم لوحده كاف في أن يجعل أسرهم صالحة
فلا يبذلون الجهد المطلوب لإصلاحهم وبنائهم وتربيتهم تربية حسنة ،
فصلاح الأبناء والبنات ليس انعكاسياً أو تلقائياً أو عفوياً أو بالتبعيّة ،
وإنّما هو جهد يُبذل وثقافة تُحمل ، وتربية تتواصل .
استخـلاصات :
بعد هذه الجولة في قصص القرآن والنماذج المتقابلة نخلص إلى :
1 ـ إنّ النماذج الخيّرة لا تنمو في الفراغ ، وإنّما تنطلق من قاعدة فكرية وإيمانية وروحية متينة ، ولذا فإنّ من سماتها الاستقرار والتماسك والثبات على المبدأ .
2 ـ إنّ النماذج الشريرة تتحرك بايحاءات الجهل والغريزة وضغط التيار ولذا فهي رجراجة ، متأرجحة ، متذبذبة ، حيثما مالت الريح تميلُ .
3 ـ النماذج الخيِّرة مُحبّة ، عطوفة ، مسامحة ، وادعة تتحسس الخير في داخلها وتنشره على مَنْ حولها ، شأنها شأن الورود العطرة .
4 ـ النماذج الشريرة ، قاسية ، فظّة ، عدوانية ، متكبرة ، تجرح مشاعر الناس وتؤلمهم وتتعبهم فهم كإبر الشوك .
5 ـ البيئة ليست وحدها المسؤولة عن بناء شخصية الانسان ، فبإمكانه أن يتمرّد عليها ، وأن لا يكون جزءاً من المحيط المنحرف الضال الفاسد الشرير .
6 ـ العناصر الخيرة ذات علاقة وطيدة بالله سبحانه وتعالى ، تحبه وتطيعه وتلجأ إليه في مواقف الضعف لينجيها من مخالب الإغراء والعنف ، على خلاف العناصر الشريرة التي قطعت حبال الوصل مع الله ووضعت يدها بيد الشيطان .
7 ـ الانسان موقف .. قل لي أيَّ موقف وقفت أقل لك مَنْ أنت ! وأبطال القصص القرآنية شواهد شاخصة ـ الخيِّرة منها والشريرة ـ على أن قيمة الانسان بقيمة موقفه .
8 ـ قصص الخيِّرين تفتح القلوب على الخير ، والعقول على المعرفة ، والروح على حبّ الله ، والحياة على الانسانية السمحاء ، ولذا ندعو إلى قراءة المزيد منها سواء في القرآن أو في الكتب الأخرى ، لأ نّها جزء أساس من ثقافتنا التربوية التي تساهم في صياغة شخصيات شباننا وفتياتنا ليكونوا نماذج أخرى ليوسف ، وإسماعيل ، وآسية ، ومريم ، وموسى ، وبنتي شعيب .[b]