رأيتم لو أن أحدهم نبّئ أو أُخبر يقيناً بوجود كنز ثمين في مكان ما، وأن هذا الكنز وقفٌ على من يستطيع الحصول عليه، وهدية له، لكنه يحتاج إلى طول بحث، وسرعة تنقيب، وعلم بخارطة الطريق، حتى لا يضل في شعابها المختلفة، ويتطلب همّة نفس، وعظيم صبر ودقة عمل.
كما يحتاج إلى التزود بالزاد لرحلة البحث الشاقّة، وإنكار الذات في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود، والأمل المرجوّ في العثور على ذلك الكنز الثمين قبل أن يصل إليه غيره فيفوز به ويحصل عليه من دونه.
تُرَى هل يتردد أحد في حث الخُطى والمسارعة إليه، وتشمير عن ساعديه للحصول عليه؟
لا شك أنه سيحاول مرة بعد مرة، وكرّة إثر كرّة دون أن يضيّع وقتاً، أو يملّ من المحاولة، أو ييأس من التكرار ليصل في النهاية إلى الثروة، ويكلل سعيه بامتلاك ما تمنى منها.
وإن عجز وحده فلا ريب أنه سيستعين بأصدقائه وأصحابه المقربين، على أن يكون الخير قسمة بينهم، لكل منهما نصيب، فهكذا جُبِل الإنسان على حبه للمال، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم وَتحبُّونَ المَالَ حبًّا جَمًّا (الفجر)، أليس في ذلك الخبر ما يستدعي التوقف لحظات للتفكر فيه؟
أين تجد الكنز؟
إن حولنا كثيراً من الكنوز الثمينة؛ نراها كل يوم ولا نهتم بها، ونعيشها كل لحظة ولا نلحظها، بل نتهاون في تحصيلها أو المحافظة عليها، ولا ندري أعن زهد فيها أم جهل بها؟ وقد حباك الله أيها المسلم كنوزاً لا حصر لها، فليست الكنوز مالاً يُكنز ولا ثروة تُورث، إنما دينك كنزك، وإيمانك ثروتك، وعافيتك مالك.
وقد يكون ذلك الكنز هو وقتك الثمين، أو رزقك الحلال، أو ولدك البار، أو زوجتك الصالحة.. وربما تمثل في عملك الصالح، وعمرك العامر بالإيمان، وحبك للناس، أو حب الناس لك. وقد يكون يوماً معظماً كيوم عرفة، أو ساعة إجابة كوقت السحر، أو شهر مغفرة كشهر رمضان الذي نستعد لاستقباله الآن.
شهر العطايا والمنح:
ولِمَ لا؟ وهو شهر تنزّلت فيه الكتب التي فيها الهدى والنور للبشرية، قال [أُنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأُنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلون من رمضان، وأُنزل الزبور لثماني عشرة خلون من رمضان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (الطبراني).
وهو شهر الرحمة، والمغفرة، والعتق.. قال [ "أول شهر رمضان رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار" (ابن أبي الدنيا).
وهو شهر العطايا والمنح.. كما جاء عن النبي [ "أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً لم يُعطهن نبي قبلي، أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبداً، وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة فإن الله تعالى يأمر جنته فيقول لها استعدّي وتزيني لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعاً، فقال رجل من القوم أهي ليلة القدر؟ قال لا، ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم" (أحمد).
وهو شهر اختصّ بليلة العمر.. ليلة القدر.. فقد قال [ "لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حُرم" (النسائي).
وهو شهر الجود والكرم.. "فكان [ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان" (مسلم).
رمضان كنزك فلا تُضَيّعه:
فاكتنز أيامه ولياليه.. فلقد خصه الله تعالى كما رأيت بخصائص ليست لغيره من الشهور، وها قد أتتك الفرصة فهي أمامك سانحة، وأطل عليك الخير بوجهه فهو ميسر، وفتحت بين يديك أبواب الإحسان فإذا هي موفورة، وتهيأت أيامك ولياليك استعداداً لاستقبال أعمال البر والخير، كل ذلك بين يديك في شهر رمضان المبارك بعد أن سُلسلت الشياطين وغُلت.
وأغلقت أبواب النيران، وفتحت أبواب الجنان، وتنزّلت الرحمة والسكينة، فانزوى الشر وبعُد، وأطل الخير واقترب، وبهذا تجد أن هذا الشهر الفضيل قد فُضِّل بكنوز الحسنات التي كثرت طرقها، وتعددت أسبابها، فلا حصر لها، فقط هي تحتاج لمن يفتش عنها وينقب، بجد وإخلاص، وصبر وهمّة ليحصل على كنزها.
فمن كنوزه حصول الأمن وتنزل السكينة.. كما قال [ "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن وغُلِّقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب" (الترمذي).
ومن كنوزه انتشار الخير، وانكماش الشر.. قال [ "وينادي مناد كل ليلة يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" (أخرجه الترمذي).
ومن كنوزه العتق من النار.. قال [ "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" (أخرجه الترمذي).
ومن كنوزه الخروج من الذنوب.. قال رسول الله [ "إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (النسائي).
ومن كنوزه قيام ليلة القدر.. قال رسول الله [ "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" (النسائي).
ومن كنوزه أن العمرة فيه أجرها بأجر حجة ففي الحديث "عمرة في شهر رمضان تعدل حجة" (أحمد).
ومن كنوزه إجابة الدعاء.. قال [ "أتاكم رمضان شهر بركة يغنيكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل" (رواه الطبراني).
ومن كنوزه أن صيامه بعشرة أشهر.. قال [ "صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذاك صيام سنة" (النسائي)، وقال "من صام رمضان وستاً من شوال فقد صام السنة" (ابن حبان). وقال "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر" (مسلم)
هل أنت من هؤلاء؟
لقد سار الركب، وتحرّكت قافلة البحث عن كنوز الخير في شهر الخير، فهل أنت واحد منهم؟، إن هناك أناساً لم يفطنوا بأن العمر ثروة وكنز وأي كنز فضيّعوه.. وانساقوا وراء شهوات النفس، وأبوا إلا أن يلبوا لها كل ما تطلب، وأمدّوها بكل ما تشتهي.
بل إن منهم من يفطر في نهار رمضان بغير عذر، ولا يرعى حرمة الشهر، ويظن أن في هذا إكراماً لنفسه التي توَهّم حبها وقد حذّر رسول الله [ ذلك الصنف فقال "من أفطر يوماً من شهر رمضان من غير رخصة ولا مرض فلن يقضيه صيام الدهر كله ولو صام الدهر" (الدارمي).
وخفي عن أولئك أن الحب الحقيقي لهذه النفس هو الأخذ بلجامها، وإلزامها جادة الطريق حتى لا تزل أو تضل، وظنوا أن الوقت طويل وفيه متسع، فلم يغتنموا كل فرصة تزيد من قوتها وتجدد من رونقها، فأضاعوا أعمارهم فيما لا ينفع، وبددوا أوقاتهم فيما لا يفيد، وتلك هي الخسارة الكبيرة، والمصيبة العظيمة، حيث تؤدي إلى ضعف الإيمان، والبعد عن الله، ونسيان الدار الآخرة، ولو علموا علم اليقين مزية الشهر العظيم، لأيقنوا أن رمضان ليس لهذا
مجله المجتمع