الإيجابية كأي صفةٍ قد تكون جبلة فطرية في نفس صاحبها، وقد تكون مكتسبة نتيجة لاستشعار صاحبها بأهميتها وحاجته إليها، فيفسح المجال لاكتسابها حتى تكون وكأنها جبلة راسخة فيه. ويحتاج هذا الكسب لأمور لا بد منها:أولاً: العزم والقصد (النية) (1)وهو قصد النفس إلى العمل(2)، أو توفر الإرادة الدافعة إلى العمل،﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ (التوبة: من الآية 46)، ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)﴾ (طه). وقد عرَّفها الغزالي بقوله: "النية: انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً"(3). فالنية ليست مجرَّد حديث اللسان، ولكنها عزمة من عزمات القلب، يتوجه بها صاحبها نحو العمل؛ فالعمل ثمرة النية وفرع عنه. والمسلم الفطن يستحضر لكل عمل نية، ويجاهد نفسه لكي تكون هذه النية خالصة لله لا مدخل للهوى أو الشيطان فيها، "فإن كنت من أولي العزم والنهى، ولم تكن من المغترّين فانظر لنفسك الآن، ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك، وراقب أحوالك، ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولاً أنك لمَ تتحرك؟ وماذا تقصد؟ وما الذي تنال به من الدنيا؟ وما الذي يفوتك من الآخرة؟ وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة؟ فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك وما خطر ببالك وإلا فأمسك، ثم راقب أيضًا قلبك في إمساكك وامتناعك؛ فإن ترك الفعل فعل ولا بد من نية صحيحة، فلا ينبغي أن يكون الداعي هوى خفي لا يطّلع عليه، ولا يغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات، وافطن للأغوار والأسرار تخرج من حيز أهل الاغترار"(4). ثانيًا: تحديد الغاية والأهداففالمسلم لا يحيا حياةً عبثيةً، فهو يعرف ما يريد في ضوء مراد الله- جل وعلا، وما انتظمت الحياة لمهمل، ولا صفت لمَن لم يعرف له في الحياة هدفًا ولا غاية، "وأعظم غاية للمسلم، وأخطر قضية هو أن يفوز في حياته الأخروية تلك، وينجو من الخسران فيها، وكيف لا؟! وقد علم أنها هي الحياة الأبدية والخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي. وكيف لا؟! وقد أيقن أن الفوز في الآخرة هو الفوز العظيم، وأن الخسران فيها هو الخسران المبين"(5). والدنيا مزرعة الآخرة، ومطية لها، ومن فقد المطية فقد الوصول؛ لذا كان لزامًا أن تحدد الأهداف والغايات. والأهداف في حياة الإنسان تنقسم إلى:1- أهداف كبرى كلية دائمة.2- أهداف صغرى جزئية مرحلية. ولا بد أن تكون الأهداف الصغرى خادمةً للأهداف الكبرى، ودائرة في فلكها، ووسيلة لها، وطريقًا للوصول إليها. وهذه هي بعض الأفكار التي تساعد الإنسان على تحديد أهدافه المشروعة:1- حذار أن تعود نفسك على القيام بأعمال لا هدف لها. 2- عند تحديد الأهداف يجب مراعاة الإمكانات المتاحة والمتوقعة، ثم تحديد الأهداف على مقدارها؛ فلا تكون الأهداف خيالية في طموحها بينما الإمكانات المعدة لها أو تلك التي يمكن إعدادها متواضعة جدًّا، أي أن يكون الهدف ممكنَ الحصول والتحقيق. 3- يجب أن يكون الهدف الذي تسعى لتحقيقه مناسبًا للزمن الذي قدرته لإنجازه. 4- يجب أن يكون محددًا واضحًا لا غموض فيه ولا لبس؛ لأن عدم تحديد الهدف أو عدم وضوحه يجعل الإنسان غير قادر على الوصول إلى ما يريد أو عدم معرفة ما يريد. 5- من شروط تحقق الأهداف وضع خطة عملية للوصول إليها؛ فالهدف مهما كان عظيمًا وممكنًا ومشروعًا ومحددًا ما لم يبين سبيل الوصول إليه يبقى أفكارًا وآمالاً فقط، أما تحققه في الواقع فلا بد له من خطة توصل إليه. 6- بعد إنجاز الخطة وتوفير الاحتياجات وتحديد زمن التنفيذ يكون التنفيذ للخطة من أجل الوصول للهدف. 7- ترتيب الأهداف التي نسعى لتحقيقها الأولى فالأولى. 8- تجزئة الأهداف الكبرى إلى أهداف مرحلية صغرى، وبعدها تحقق كل هدف مرحلي على حدة(6). ثالثًا: القدرة مع علو الهمةوضوح الأهداف وحده لا يكفي للتغيير، ولكنه يحتاج إلى قدرة على التغيير، وتتفاوت درجات القدرة من شخص لآخر، حتى تنتهي عند الإرادة القلبية، وليس وراء ذلك للمرء من سبيل، وذلك واضح من قول الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"(7). والعيب كل العيب فيمن كان قادرًا على التغيير، ولكن نفسه ركنت إلى الجمود والسكون، وما أجمل قول المتنبي:وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئًا كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ والأمة الإسلامية لا تعوزها القدرة، ولكنها تحتاج إلى همة عالية، ونفس وثابة متطلعة إلى المعالي لا تكل ولا تمل، وعمل دءوب لا ينقطع، وروح شفوفة كأنها تعيش بين أهل السماوات. الأمة الإسلامية تحتاج إلى من يحمل همها، وينشغل بمشاكلها، وعلاج آفاتها، تحتاج إلى شخص قد أعد عدته، وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه؛ فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدًا، إن دعي أجاب، وإن نودي لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة. فهذا الصنف ومَن على شاكلته لا يعرفون الراحة، ويكرهون السكون والعجز، قاهرون للأعذار، مسارعون في تنفيذ التكاليف وإنجازها.قال ابن الجوزي: "من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء"(
.والرضا بالدون يأتي عن طريق:1- ركون المرء إلى الدنيا والانشغال بها.2- مقارنة المرء عمله وجهاده بعمل وجهاد مَن هو دونه من حيث قدراته وإمكاناته.3- وجود المرء في بيئة مثبطة لا تعينه على الانشغال بما هو بصدده(9). رابعًا: الوسائللإتمام أي عملٍ لا بد له من نية تدفع للقيام به، ثم تحديد الهدف المرجو من هذا العمل، ثم التحرك الفاعل لإتمام هذا العمل، ويكون ذلك عن طريق اتخاذ الوسائل العملية المناسبة والشرعية؛ لأن المسلم لا يكون ميكافيلليًّا يرى أن الغاية تبرر الوسيلة(10)، ولكنه لا يتخذ إلا الوسيلة المشروعة المحققة لغايته النبيلة. والوسائل العملية المقترحة كثيرة نشير إلى بعض منها تاركين المجال لك- أيها القارئ الأريب- لتبدع الوسائل المتنوعة لتحقيق الإيجابية فيك وفي الآخرين. 1- دراسة سيرة الدعاة السابقينفتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاحإنَّ دراسةَ سير الدعاة على مر العصور ابتداءً من الرسل الكرام حتى المجددين في العصر الحديث، وإبراز الدور الذي لعبوه في التغيير والإصلاح، وكيف أنهم لم يجدوا السبيل ممهدة معبدة، ولكنهم شقوا طريقهم بين الصخور، متحملين العنت والمشقة من المدعوين، لم يدخل الضعف إلى نفوسهم، استعانوا بالله رب العالمين، وأخذوا بالأسباب ولم ينظروا إلى النتائج؛ فالمهم العمل؛ لأن المحاسبة تكون على الأعمال لا على النتائج. كل ذلك مدعاة لنا أن نسلك طريقهم، ونتخذ منهجهم في التغيير، وأن يكونوا القدوة لنا في زمن عزَّ فيه أن نهتدي للشخصيات الصالحة للاقتداء ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: 90). 2- مصاحبة مَن يتصفون بالإيجابيةإن مصاحبة هؤلاء الإيجابيين "أولى الهمم العالية لترفع همة الفرد، وتجعله يتعلم من سلوكهم العملي ما لا يتعلمه من كثيرٍ من المواعظ والكلام، فقد قيل: "عمل رجل في ألف رجل خيرٌ من قول ألف رجلٍ في رجل" (11). وبالاحتكاك والمعايشة تنتقل الصفات الإيجابية بين الأفراد وتنتشر؛ حتى تصبح الإيجابية صفة جمعية أو مجتمعة بمعنى أن المجتمع كله يكون إيجابيًّا وليست صفة أفراد متفرقين، وعندها نقول- بحق: إن هذه الأمة أصبحت قادرةً على تغيير العالم مما هو فيه من البلاء، وتوجيهه نحو الصواب، حيث الإسلام. 3- متابعة البرامج التي تغرس هذه الصفةفي مجتمعاتنا الإسلامية الآن فئات تشعر بأهمية التغيير، وتدعو لحمل همِّ الأمة، وتطالب بالمبادرة إلى الإسراع بخطى التغيير نحو الإصلاح الحقيقي للأمة، وتضع برامج للتغيير والإصلاح، وتحاول نشر ذلك من خلال الدورات والدروس، وورش العمل... إلخ.فبادر- أيها الأخ الحبيب- إلى الاشتراك في هذه الأعمال ومتابعتها لتتعلم فتعمل وتعلم غيرك. 4- ادع الآخرينإذا أردت أن تكون إيجابيًّا فادع من تتوسم فيه الخير إلى أن يكون إيجابيًّا، فنشر هذه الصفة في المجتمع المحيط بك يحافظ عليك أنت شخصيًّا، وعندها يكون قد تم التوسع رأسيًّا وأفقيًّا، وذلك بانتشار هذه الصفة بين أكبر عددٍ من الناس، وتعمقها كذلك فيك عن طريق ممارستها، فالأقوال النظرية لا تصنع الواقع ما لم تترجم إلى أفعال. وتتم الدعوة للإيجابية عن طريق إعطاء دورات فيها، وفي أهميتها، وكيفية ممارستها، والعوامل المترتبة عليها، وكذلك عن طريق حلقات الدروس، أو المجلات.. إلخ. وإذا لم تستطع استخدام هذه الوسائل في نشرها فعليك بدعوة الأفراد إليها فرديًّا عن طريق المصاحبة والمخالطة. وفي أثناء الدعوة للإيجابية تلمس الشخصيات المحورية المؤثرة التي إن أحدثْت فيها تغييرًا تجد أثر ذلك على جميع المحيطين بها. 5- إنشاء محاضن لهذه الصفةفلماذا لا ننشئ جمعيات في المدارس، وأسرًا في الجامعات تقوم في مبادئها على نشر هذه الصفة في المجتمع؟ ومجتمع المدارس والجامعات يحتوي على عماد الأمة، والجيل الذي تقوم على أكتافه نهضة هذه الأمة، فتوجيه الاهتمام إليهم بنشر هذه الصفة فيهم هو لبنة في صرح البناء النهضوي المرتقب للأمة. 6- مراجعة الأعمال وتقييمهامراجعة الأعمال بين الحين والآخر لمعرفة مستوى الأداء أمر مطلوب، فقد يحدث قصور- وكثيرًا ما يحدث- فنحاول أن نجد له العلاج المطلوب، أما إذا تركنا الأمور تسير هكذا خبط عشواء فعندها قد يحدث انحدار دون أن يشعر به المرء، والإنسان الغافل هو الذي لا يراجع ما قام به من أعمال ليصحح الخطأ، أو يبحث عن وسائل جديدة لتحقيق مستهدفاته... إلخ. فهذا الأستاذ البنا يتحدث في المؤتمر الخامس فيقول: "ولا بأسَ أن ننتهز هذه الفرصة الكريمة فنستعرض برنامجنا، ونراجع فهرس أعمالنا، ونستوثق من مراحل طريقنا، ونحدد الغاية والوسيلة، فتتضح الفكرة المبهمة، وتصحح النظرة الخاطئة، وتعلم الخطوة المجهولة، وتتم الحلقة المفقودة" (12). وهذه نظرة ثاقبة من الإمام البنا؛ فليس معنى أنه داعية إسلامي، وأن جماعته معنية بالشئون الإسلامية، ألا يخطط لأعماله، وألا يراجعها بعد تنفيذها ليرى إلى أي مدى قد وصلت الأمور، وقد يكون من الأسباب التي أدَّت إلى استمرار تلك الدعوة بعد فضل الله عز وجل أن سلكت طريق المراجعة والتقويم.------------ -----1- قال الغزالي: "اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد" (أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: إحياء علوم الدين، تحقيق: الشحات الطحان، عبد الله المنشاوي، مكتبة الإيمان، المنصورة، الطبعة الأولى، 1417ﻫ-1996م، (5/7).2- مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم، سنة 1411ﻫ-1991م، ص (641).3- الإحياء، (5/19).4- السابق، (5/18).5- عبد الحليم الكناني: غايتنا أخطر قضية في حياة المسلم، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، طنطا، الطبعة الثانية، 1414ﻫ-1993/1994م، ص (34).6- انظر: د. عوض بن محمد القرني: حتى لا تكون كلاًّ، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الخامسة، 1420ﻫ-1999م، ص (14-26).7- أخرجه مسلم في "الإيمان"، باب: "بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان"، ح(70).8- أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي: صيد الخاطر، دار ابن خلدون، الإسكندرية، ص(7).9- انظر: ماجد العويسان: طرق التدريس الحديثة بين النظرية والتطبيق، المؤسسة الحديثة، د.ت، (2/261-303).10- انظر: محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة التاسعة، 1422ﻫ- 2001م، ص (466) وما بعدها.11- طرق التدريس الحديثة بين النظرية والتطبيق، ص (297).12- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1412ﻫ-1992م،
منقول[b][center]